أثر عمل المرأة في النفقة الزوجية للدكتور عبد السلام الشويعر

إن الذي دفعني لكتابة هذه التدوينة لعرض هذا البحث القيّم كثرة اللبس الحاصل بين المتكلمين من الجنسين في مواقع التواصل عن هذا الموضوع دون خلفية فقهية ولا أساس منهجي قد بنوا عليه كلامهم، إنما بضع فتاوى متفرّقة تكون أحياناً ممن لا ناقة لهم ولا جمل في الفقه وأحياناً أخرى تكون فتاوى مخصصة للسائلين، ولا يخفى على القارئ والدارس أن الحكم يختلف اختلافا بيّنا عن الفتوى؛ فالحكم عام والفتوى خاصة.

— نقد الرؤية الذكورية والنِسوية لعمل المرأة

إن مسألة عمل المرأة مسألة لا بد أن يتطرق لها العقل المسلم ويتناولها بمنأى عن العقول والأيدولوجيات الأخرى كالنِسوية والذكورية اللتان تدلّسان وتضلان عن الحق فتنحنيان منحنيات بعيدة كل البعد عن الواقع، بل يجمع المسلم بين تعاليم دينه وما يطرأ عليه في واقعه هو لا واقع غيره.

ولا يصح تقسيم الأمور إلى أبيض أو أسود فقط كما تفعل النِسوية والذكورية؛ لأن المجتمع الواحد يحوي تفاوتا كبيرا بين أفراده، بل إن العائلة الواحدة إن تزوّج أفرادها اختلفت ظروفهم رغم تربيتهم وتنشئتهم في بيئة واحدة موسرة كانت أو معسرة.

أما الأيدولوجيا الذكورية التي تدّعي أن كل امرأة تعمل إنما هو ترفيه وترويح عن نفسها كما أن عملها عائق لعمل الرجل الذي هو أولى بالكسب منها فضلا عن فتنة نفسها بنفسها، فقد أغفلت التي تعمل من منزلها دون خروج، والريفية التي تزرع وتحصد وتربّي المواشي والدواجن وتخبز ثم تبيع ما تنتج، فليس عمل المرأة محصورا في مكتب مغلق مع رجال هم زملاء عملها!

وأما الأيدولوجيا النِسوية التي تدّعي أن كل امرأة لا بد لها أن تعمل لتحقق لها أمانا ماديا وفخرا معنويا إنما أغفلت المرأة التي ما فكرت قط في العمل إلا لمرض ذويها الذكور أو عدمهم بالوفاة أو بخلهم عن البذل والعطاء مما هو حق لها قد شرعه الشارع تبارك وتعالى.

وأنا رغم اعتقادي أن المسؤولية المادية في العائلة ليست مسؤولية المرأة ولا ينبغي لها أن تغتم لذلك بل تتركه لرجل العائلة سواءً كان زوجا أو والدا أو شخصا آخر هو ولي العائلة وعمادها من إخوة وأبناء أعلم جليّا في الوقت نفسه شظف العيش وسوء الواقع وتفاوت أحوال الناس.

ولو كان لي من الأمر شيء في المجتمع لصرفت للنساء المحتاجات أموالا تغنيهن عن الحاجة وتجعلهن يتفرّغن لما قد خلقهن الله له من العبادة وهيأ أجسادهن له من نسل ورعاية بدلا من أن يرهقن أنفسهن في هم الكسب ليكتشفن في النهاية أنهن ولو قمن بوظيفة الرجل فهيهات للرجل أن يقوم بوظيفتهن التي فطرهن الله عليها من الحمل والولادة والإرضاع.

هذا رغم يقيني أن الغبطة فيمن ادّخر لآخرته عملا صالحا بمال أو ولد، فليس المال محمودا على إطلاقه وليس الولد معتمدا عليه دوما، وكلاهما فتنة في وجودهما وعدمهما.

والله سبحانه وتعالى يخبرنا أن من الناس من عاهده أن ينفق في سبيله فلما رزقه الله تراجع عن وعده فطبع على قلبه:
(۞ وَمِنۡهُم مَّنۡ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَـٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ * فَلَمَّاۤ ءَاتَـٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُوا۟ بِهِۦ وَتَوَلَّوا۟ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ * فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقࣰا فِی قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ یَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَاۤ أَخۡلَفُوا۟ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ * أَلَمۡ یَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَاهُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُیُوبِ) التوبة: ٧٥-٧٨.

ويحذرنا من فتنة الزوج والولد، يقول تعالى:
(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰ⁠جِكُمۡ وَأَوۡلَـٰدِكُمۡ عَدُوࣰّا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُوا۟ وَتَصۡفَحُوا۟ وَتَغۡفِرُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ * إِنَّمَاۤ أَمۡوَ ٰ⁠لُكُمۡ وَأَوۡلَـٰدُكُمۡ فِتۡنَةࣱۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥۤ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ * فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُوا۟ وَأَطِیعُوا۟ وَأَنفِقُوا۟ خَیۡرࣰا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ) التغابن: ١٤-١٦.

لذلك أرى خطاب النساء في مفاضلتهن بين اكتناز المال أو اتخاذ الذرية على إطلاقه دون استيعاب للمزايا والعيوب عبثا وسوءا؛ لعدم استحضار أن العمل والمال وإنجاب الأطفال هي أسباب ووسائل لا مبتغى وغايات، فالغاية والمطلب في هذا الوجود إنما هي العمل الصالح الذي ينجي المرء من عذاب جهنم.
ولله در السلمي رحمه الله إذ قال (عيوب النفس ومداواتها، ص/٤٤): ”الدنيا فانية، حلالها حساب وحرامها عذاب“.

فليس حصد المال غاية بل تحري حلاله وليس النسل غاية بل صلاح الولد، قال الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين (ط: دار ابن حزم، ص/٤٩٩): ”كان الرجل إذا خرج من منزله تقول له امرأته أو ابنته: إياك وكسب الحرام فإنّا نصبر على الجوع والضرّ ولا نصبر على النار“.

ولله درّ المرأة التي كانت تقول لزوجها إذا خرج للسوق (المجالسة وجواهر العلم، ط: دار ابن حزم، ٥/٢٥٢ رقم ٢٠٩١): ”يا فلان! اتق الله ولا تطعمنا إلا طيبا، إن جئتنا بقليل كثّرناه وإن لم تأتنا بشيء أعنّاك بمغزلنا“.

وعلى كلٍّ فالناس يختلفون في أحوالهم ولكلّ شخص ابتلاء يواجهه وإنما يحاول المسلم والمسلمة أن يلتزما بتعاليم الدين الحنيف على قدر الاستطاعة (وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ یُسۡرࣰا) الطلاق: ٤.

— نقد دعاوى التجديد بمعنى التبديل

أما عن دعاوى تجديد الخطاب فأراني كلما قرأت في الأحكام الفقهية وجدت المتقدّمين قد تطرّقوا لمسائل واقعية عديدة بمرونة كبيرة – لعلها تزيد على مرونة المتأخرين – بعضها لم يحدث حتى كمسائل (الفقه الافتراضي)، وكلما قرأت أكثر عجبت من دعاوى تجديد الخطاب العصرانية/الحداثية الداعية لتجديد الأحكام بما يواكب التغيرات العصرية؛ فأي تجديد يصبو إليه المتأخرين وأحكامهم بُعدها قاصر وكنهها صلب وما وصلوا لنصف مرونة المتقدّمين ولا ربعها؟

وكلما قرأت رسالة في الفقه أو مسألة فيه لا أتمكّن من تصوّر مصطلح (تجديد الخطاب الديني) سوى أن هؤلاء المجددين مترجمون يوضّحون معان تخفى عن اللسان المعاصر كالقصعة معناها الطبق والإناء.

أما القول بتغيير الأحكام لتخلّفها عن الزمان فهو إما أن يكون محضُ عبثٍ إذا رُفض القديم جملة وتفصيلا لتخلّفه وقُبل الجديد دون تمحيص لتقدّمه؛ لأن مرتبة الاجتهاد يصل لها من يستخدم الوحيين ثم إجماع أئمة العلم ثم القياس في الحكم الفقهي، فكيف يعقل للمجتهد أن يعطّل مصادر التشريع الثلاث ويتنكّر من إجماع وقياس مَن قبله ويدّعي فهما أصح من الصحابة والتابعين وتابعيهم ثم يدّعي بعد ذلك أنه مجتهد فقيه؟ بل كيف يعقل أن تجتمع الأمة على خطأ لا يفطن له إلا هذا الجديد؟!

وإما أن يكون المقصود به النظر في تغيّر العرف والحال والتوصل للأحكام بناء على ذلك دون رفض للقديم بل استيعاب له وزيادة عليه فهذا صحيح إن شاء الله.

نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إعلام الموقعين (٣/٢٥٦): ”لم أجد أجود الأقوال إلا أقوال الصحابة رضوان الله عليهم، وإلى ساعتي هذه ما علمت قولا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا كان القياس معه، لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجلّ العلوم، وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل التام“.

ولله درّ ابن القيم إذ قال عن تسويغ الاجتهاد (٥/٢٤٣): ”والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها – إذا عُدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به – الاجتهاد؛ لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في قول العالم: (إن هذه المسألة قطعية أو يقينية ولا يسوغ فيها الاجتهاد) طعن على من خالفها ولا نسبة له إلى تعمّد خلاف الصواب“.

— أصل العلاقات الائتلاف لا الاختلاف

قبل البدء في عرض البحث أودّ الإشارة لمعنى ضروري عن العلاقات والأحكام الفقهية، فأقول: إنما أصل العلاقات الائتلاف لا الاختلاف، فتبنى على المودة والرحمة (وَجَعَلَ بَیۡنَكُم مَّوَدَّةࣰ وَرَحۡمَةًۚ) الروم: ٢١، والفضل (وَلَا تَنسَوُا۟ ٱلۡفَضۡلَ بَیۡنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرٌ) البقرة: ٢٣٧، والرضى (فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَیۡءࣲ مِّنۡهُ نَفۡسࣰا فَكُلُوهُ هَنِیۤـࣰٔا مَّرِیۤـࣰٔا) النساء: ٤، والمتعة (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَـٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِینَ) البقرة: ٢٣٦، ولا تُردّ العلاقات إلى الفقه إلا في الخلاف والتشاكل، فالأصل الاتفاق لا التنازع وفي حين اختلّ الأصل (فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءࣲ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ خَیۡرࣱ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلًا) النساء: ٥٩.

وإنما تلزم الأحكام الفقهية المتنازعان الحد الأدنى من الحقوق والواجبات فيكفّ ذي الشر شرّه ولا يُعتدى على الأضعف فيهما، وكل ما زاد على الحكم الفقهي في الحق والواجب فهو إحسان يجازيه الله سبحانه وتعالى إحسانا، والخير في البر والمفاضلة لا المكافئة والمقابلة. والذي يدرك ذلك يحزن حزنا شديدا؛ لأن الأحكام الفقهية ملزمة للحد الأدنى من الحقوق والواجبات ومع ذلك يعجز كثيرا من الرجال والنساء عن الإتيان بهذا الحد الأدنى!

— خفوت مسألة عمل المرأة عند المتقدمين

هذا البحث صغير موجز من غير إخلال لمسألة عمل المرأة وتأثير ذلك على نفقتها المستحقّة، وأراه مدخلا لقراءة أحكام المتقدّمين والإفادة منها ثم الزيادة عليها – إن لزم الأمر – بما قد اختلف في العصر.

لم تكن مسألة عمل المرأة شائعة عند الفقهاء المتقدّمين فكان أغلبهم يسمّيها بالواقعة أي النازلة التي حدث السؤال عنها، لكنهم رغم ذلك تطرّقوا إليها وهذا دليل على سعة علمهم وكبير فقههم وعظيم مرونتهم وبُعد نظرهم للمسائل الواقعية.

يقول الدكتور عبد السلام الشويعر ص/٧: ”ولعل السبب في عدم تعرّضهم لهذه المسألة – مع كثرة اهتمام المعاصرين بها – هو اختلاف طبيعة العمل في الأزمنة المتقدّمة مقارنة بالمتأخرة، إضافة لتغيّر المعايير الاجتماعية الحاكمة للعمل وطبيعته، والظروف الاقتصادية والتنظيمية التي اختلفت عن ذي قبل حتى غدا عمل المرأة حقّا لها تكفله الأنظمة الحقوقية في العالم.

في حين كان العرف عند الأوائل أن عمل المرأة من باب التكليف والمشقّة عليها؛ ولذا فإنهم قرروا أنه لا يلزم الزوجة العمل إذا أمرها زوجها؛ لأن هذا من باب التكسّب لا من باب العشرة. قال الدسوقي في حاشيته: المرأة لا يلزمها أن تنسج ولا أن تغزل ولا أن تخيط للناس بأجرة وتدفعها لزوجها ينفقها؛ لأن هذه الأشياء ليست من أنواع الخدمة وإنما هي من أنواع التكسّب“.

— ماهية النفقة

النفقة مال تتملكه الزوجة من زوجها حقا لها وواجبا على زوجها، ويكون على سبيل المقابلة بمعنى أنه إذا وجد مانع عن إعطائه منع ويسير هذا على سائر الحقوق والواجبات الزوجية.

يقول الدكتور (ص/١١): ”الأصل عند الفقهاء أن علة وجوب النفقة الزوجية هو المقابلة بين ما تبذله المرأة مما وجب عليها من آثار عقد النكاح… فكما يجب على الزوج حقوق أحدها النفقة فإن المرأة تجب عليها حقوق كذلك، بخلاف نفقة الأبناء والقرابات فإنها تجب بناء على الصّفة؛ فلذا فإنها لا تنقطع إلا بالكفاية بخلاف النفقة الزوجية فإنها تنقطع بعدد من الموانع“.

ويقول: ”إذا أخلّ أحد الزوجين بما عليه من التزام بالعقد من غير عذر جاز للآخر الامتناع من أداء ما وجب عليه في مقابله؛ ولذا تطرّق الفقهاء لمسألة ما يقابل النفقة الواجبة على الزوج من الحق الواجب على الزوجة؛ لإظهار المقابلة بينهما“ فإذا حصل الخلل جاز المنع.

— وجوب النفقة

قد انفردت الظاهرية بوجوب النفقة لمجرّد العقد، وهو قول عند الحنفية والمالكية، وأحد قولي الشافعية، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، أما مذهب جمهور المذاهب الأربعة أن النفقة لا بد لها من أثر من آثار العقد؛ لأن العقد وحده موجب للمهر لا النفقة.

وتباينوا في هذا الأثر:
١. منهم من قال أن النفقة مقابل (الاحتباس) أي ملازمة بيت الزوجية، وهو قول الحنفية.
٢. وقيل مقابل (التمكين) أي تمكين المرأة نفسها لزوجها وهو قول عند المالكية ومذهب الشافعية.
٣. وقيل بل مجموع الأمرين، وهو قول عند المالكية ومذهب الحنابلة ويعبّر عنه (التمكين التام)، والإخلال بالأمرين أو أحدهما يسقط النفقة.

— النشوز

إن الإخلال بالموجب سواء كان الاحتباس أو التمكين أو التمكين التام يعدّ نشوزا مسقطا للنفقة، وهنا يلزم الإشارة لنقطة مهمة هي خطأ ذيوع القول أن الناشز هي الخارجة عن مجرّد الطاعة والصواب أنها هي المانعة للتمكين أو المتمرّدة على الاحتباس. وقد عرّف ابن قدامة النشوز بأنه: ”معصية المرأة زوجها فيما يجب له عليها من حقوق النكاح“ (ص/١٨).

ويتضح مما سبق أن النفقة لا تسقط بمجرّد عمل المرأة بل أصل سقوطها النشوز بالامتناع أو الخروج بغير إذن: ”وعندما نبحث في نفقة المرأة العاملة نجد أن المناط الفقهي لهذه المسألة إنما هو في خروجها من بيت الزوجية بدون إذن – باتفاق – وليس المناط في ذات العمل أو طبيعته“ (ص/١٦). وتصحح هذه الجملة خطأ آخر يقع فيه عوام الناس عند حديثهم عن سقوط النفقة بمجرّد عمل الزوجة فتنفق على نفسها بل أحياناً تطالب بالإنفاق على بيتها أيضاً والأصل ليس هذا!

— عمل المرأة بغير إذن زوجها (نفقة الناشز)

أما عن سقوط نفقة العاملة بغير إذن زوجها ففريق يرى سقوط النفقة كليا، وثان يرى عدم سقوطها ولو عملت بدون إذنه، وثالث يرى تشطيرها (تنصيفها).

يقول الدكتور (ص/٢٨-٢٩): ”والذي أميل إليه هو القول الثالث بأن المرأة إذا كانت عاملة خارج منزلها فلها النفقة ولو كانت تعمل بدون إذن زوجها، وأن عدم إذن زوجها مؤثر في تقدير النفقة لا في إسقاطها بالكليّة، وهذا الرأي وسط بين الرأيين الأولين وفيه إعمال للمعنى الموجود في القولين معا.

كما أنه الأوفق للمقاصد الشرعية؛ فإن النفقة وجبت شرعا بسبب عقد الزوجية في مقابل التمكين من الزوجة، فإذا لم يتحقق التمكين التام وإنما تحقق بعضه فالمعنى المقابل للنفقة ما زال موجودا ولكنه ناقص، فينقص تقدير النفقة في مقابل نقصه وهذا هو معنى (تشطير النفقة).

وفي القول بسقوط النفقة بالكليّة مع وجود التمكين من المرأة واحتباسها الجزئي لمصلحة الزوج إسقاط لهذا البذل الذي بذلته المرأة وإلغاء له بالكليّة وهذا بعيد من المعاني الشرعية… قال ابن نجيم (ت ٩٧٠ هـ): (وإنما أكثرنا من هذه المسائل تنبيها للأزواج لما نراه في زماننا من تقصيرهم في حقوقهن حتى إنه يأمرها بفرش أمتعتها جبرا عليها وكذلك لأضيافه.. حتى كانت عند الدخول غنية صارت فقيرة، وهذا كله حرام لا يجوز نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا).

وفي المقابل فإن مصلحة الزوج لم تلغ بل رُعيت بوجود التمكين والسكن في بعض اليوم، وخفّف عنه في قدر النفقة الواجبة شرعا في مقابل هذا النقص في التمكين. وأيضاً فإن هذا القول فيه مراعاة لأعراف هذا الزمان؛ إذ معيشة كثير من الأسر موغلة في الكماليات والتحسينات التي لا يلزم الزوج أن يوفّرها لزوجته في النفقة الواجبة وإنما هي من الإحسان إليها، فربما كان في عمل المرأة وكسبها سداد لحاجتها من هذا الباب الذي أغرق الناس فيه“ اهـ.

— شروط الحكم بتشطير نفقة المرأة العاملة بغير إذن زوجها

١. ألا يكون العمل محرّما شرعا، فإذن الزوج حينها لا فائدة منه لأنها تكسب بمعصية الله، كما أن الكسب الحرام داخل في دائرة المحرم التي يجب منعها منه.
يقول الدكتور ص/٣٣-٣٤: ”ويلحق بذلك ما لو كانت في خروجها غير منضبطة بالضوابط الشرعية التي أمر الله بها من عدم إظهار الزينة والاختلاط بالرجال… ولا عبرة بالعيب العرفي لوظيفة المرأة ما دام الكسب حلالا وهي ملتزمة بالحدود الشرعية… فالعبرة بالحرمة الشرعية دون النظر لطبيعة العمل؛ ولذا لم يفرق العلماء بين حرفة وأخرى في الحكم“.

٢. ألا يكون العمل مستغرقا اليوم كله، ويفسّر الدكتور هذا الشرط بقوله ص/٣٤: ”وهذا السبب إنما يتفرع على رأي من يرى تشطير النفقة بخروجها بعض اليوم. فإذا استغرق عمل المرأة خارج منزلها اليوم كله ليله ونهاره – وكان بدون إذن زوجها – فإن النفقة تسقط بالكلية لعدم التجزئ عند من يرى ذلك. وأما إذا قيل برأي الجمهور وأن النفقة لا تشطر بخروج المرأة بعض اليوم فإن هذا السبب لا حاجة له؛ إذ الجزء له حكم الكل عندهم“.

٣. أن يكون العمل خارج المنزل؛ لأن المعنى الذي لأجله أثر عمل المرأة في النفقة إنما هو خروجها من المنزل: ”فإذا كان عمل المرأة [بدون إذن زوجها] داخل بيت الزوجية كالنسج أو العجن أو العمل عن طريق وسائل الاتصال الحديثة كالنت والهاتف ونحوه فإن ذلك لا يسقط النفقة ولو كانت المهنة تضعفها؛ لأنها سلمت نفسها تسليما كاملا ولأن الرجل ليس من حقه الحجر على المرأة في أنواع الكسب“.

٤. ألا يكون العمل واجبا عينيا عليها شرعا؛ لأن عمل المرأة الواجب عليها شرعا لا يُشترط فيه إذن الزوج بناء على ما تقرر من أن الواجبات إذا تزاحمت قدّم حق الله تعالى فيها.

”وقد مثّل بعض الفقهاء لبعض المهن والأعمال التي يكون خروج المرأة إليها واجبا مثل القابلة أو مغسلة الموتى، وقرروا أنه يجوز لها أن تخرج بغير إذن زوجها وعللوه بأن فوات عمل القابلة يترتب عليه هلاك الجنين أو أمه وتغسيل الميت من فروض الكفايات التي يأثم الناس بتركها ولا يمكن أن يقوم بهذا العمل غيرها، وعليه فإنه يكون واجبا عينيا في حقها، وكذا ما كان في عمل المرأة ضرورة عامة أو خاصة“.

٥. أن يبذل الزوج النفقة الكافية للزوجة ”والعلة في ذلك أن امتناع الرجل من النفقة على زوجته (سواء كان امتناعا كليّا أو جزئيا) فيه إضرار بها ومضارة عليها شديدة، وهو من الفعل المحرم شرعا والفعل الحرام لا يسقط به الواجب مطلقا“.

٦. عدم إذن الزوج لزوجه بالعمل، فلو أذن لها اختلفت الأحكام كما سيأتي.

— عمل المرأة بإذن زوجها

بعد الانتهاء من تفصيل الكلام في عمل المرأة بغير إذن زوجها يأتي الآن الحديث عن أثر عمل المرأة بإذن زوجها في النفقة، وفيه قولان:

١. رأي الجمهور أن النفقة لا تسقط بإذن زوجها؛ ”لأن المرأة إنما فوّتت حقّ الزوج بإذنه ورضاه، فكأنه هو من ابتدأ في إسقاط حقّه فلا يقابل هذا الإسقاط شيء“.

٢. قول بعض الشافعية أن نفقتها تسقط بخروجها من بيته ولو كان بإذن منه؛ لأن علة ثبوت النفقة (وهو التمكين التام) قد فات بخروجها وإذا انتفت العلة انتفى الحكم، ”ولكن يجاب عن ذلك بأن إذن الزوج بالخروج بمثابة الاستيفاء ثم الإسقاط فلا يسلّم أن العلة قد انتفت من كل وجه“.

— صور إذن الزوج بعمل زوجته

لأن الحكم اختلف فلا بد لإذن الزوج أن يكون له صور مختلفة كذلك:

١. الإذن الصريح: إما وقت العقد أو بعد الزواج، فلا تسقط النفقة الزوجية؛ لرضا الزوج بالاحتباس الناقص، ومثله المنع الصريح يسقط النفقة أو يشطرها.

٢. الإذن الضمني: وهو معرفة الزوج بخروج زوجته للعمل وسكوته على ذلك مع قدرته على منعها أو إعانته إياها بتوصيلها لمحل عملها، وهو كحكم الإذن الصريح سواء سكت أو أعانها.

٣. الاشتراط النصي في العقد: فتشترط المرأة أو وليها على الزوج عند عقد النكاح على العمل أو تشترط ألا يمنعها منه. ”وقد اختلف في هذا الشرط هل يكون ملزما أم لا على رأيين:
أحدهما أن هذا الشرط غير ملزم ولا يجب الوفاء به، وهذا القول يُخرّج على قول الحنفية والشافعية بعدم صحة الشروط المقترنة بالعقد مما ليس متعلقا بالمهر، ولا يلزم الوفاء به؛ لأنه يخالف حقا ثابتا بالعقد ويفوّته عليه وهو حقه في الاحتباس الكامل، ويُخرّج على المالكية استحباب الوفاء بهذه الشروط مع عدم لزومها، وبناء على ذلك يحق للزوج أن يتراجع عن موافقته السابقة.
والثاني: أن هذا الشرط يلزم الوفاء به ولا تسقط به النفقة وهو مخرّج على مذهب الحنابلة وقول عند المالكية والشرط ملزم للزوج؛ لعموم الأدلة على جواز الاشتراط في النكاح ولزوم الوفاء بها، ولعل هذا الرأي أقرب لتحقيق المناط في مسألة شروط النكاح فيكون اشتراط المرأة على زوجها أن تعمل شرطا صحيحا لازما للزوج غير مسقط للنفقة“.

٤. الاشتراط العرفي في العقد: وهو زواج الرجل من الموظفة فلم تشترط عليه العمل؛ لجريان العرف على استمرارها في العمل، وفيه قولان:
أحدهما: رأي بعض المعاصرين أن الزواج من الموظفة يقتضي تركها بيتها نهارا كالأمر المشروط في العقد؛ لأن خطبتها مع علمه بعملها بمثابة الشرط المدوّن في العقد فهو كالإذن منه.
والثاني: رأي أغلب المعاصرين أن العلم السابق هو إذن ضمني يجوز الرجوع عنه؛ فسكوته عن عملها لا يعدّ بمثابة اشتراطها عليه عدم منعها من وظيفتها ولا يعدّ رضى منه بعملها خارج المنزل.

— المعاوضة على الإذن

وهو إذن الزوج لزوجته بالعمل مع تعويضها في المقابل، والأصل أن يكون الإذن مجانا ولكن لو اشترط عوضا أو بدلا فهل يصح ذلك؟ فيه صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون الإذن مقابل إسقاط النفقة الزوجية أو بعضها، فيتفق الزوجان على عملها مقابل إسقاط نفقتها عنه، ”فالظاهر أنه صحيح؛ لأن انتفاء الإذن يترتب عليه سقوط النفقة أو جزئها فإذا اتفقا على سقوطها مقابل الإذن صح ذلك وتستفيد المرأة من الإذن رفع الإثم عنها، إضافة لبقاء الألفة بين الزوجين وإزالة مسببات التشاحن“.

الصورة الثانية: أن يكون الإذن مقابل عوض مالي غير إسقاط النفقة كأن يشترط الزوج جزءا من راتب زوجته أو أن تتولى مؤنة النفقة على أبنائهما، ففيه حالتين:
١. إذا كان العوض مقابل عمل من الزوج كتوصيلها أو مرافقتها فإنه يستحق الأجرة بالمعروف.
٢. إذا كان العوض مقابل إذنه فقط فالحكم متفرع عن صحة المعاوضة، والأصل أن الحقوق تختلف في قبولها للمعاوضة مقابل الإسقاط.

والحق الثابت للزوج هو احتباس الزوجة والتمكين التام فهل يصح المعاوضة على إسقاط حقه بالمال؟ فيه قولان:
الأول: قول الحنفية بعدم جواز ذلك وأحد القولين عند المالكية ومشهور مذهب الحنابلة، والتعليل أنها حقوق لا تقبل المعاوضة؛ لأنها ليست بمال فلا تقابل بالمال.
والثاني: جواز المعاوضة على كافة الحقوق الزوجية وهو قول عند المالكية، ولكن لا بد من تقييده بعدم المضارّة بل بطيب النفس من الزوجة؛ كيلا يكون ذريعة للتعسف في استعمال الزوج حقه بالإذن لمساومة زوجته على بذل المال.

— رجوع الزوج عن الإذن بالعمل

لرجوع الزوج عن إذنه حالتان:
الأولى: رجوعه عنه بعد أن كان شرطا صحيحا في العقد، فإن الفقهاء يثبتون للزوجة حق الفسخ للعقد دون مقابل منها.
والثانية: رجوعه عنه ولم يكن شرطا في العقد، فهذا صحيح؛ لأن العلة في ذلك أن الرجوع عن الإذن إعادة للأصل (منع الخروج) فيتحقق بعمل المرأة حينئذ فوات التسليم الكامل الذي هو شرط وجوب كامل النفقة.

— التعسف في استعمال حق الرجوع عن إذن العمل

ويتمثل في المنع بعد الإباحة؛ لأن عدم الإذن ابتداء تمسك بالأصل فلا تعسف فيه، والتعسف إذا كان مقصده من التراجع ليس مصلحة الأسرة أو مصلحته نفسه بل الإضرار بها والنكاية أو مساومتها على المعاوضة أو إسقاط بعض حقوقها الزوجية، وهذا التعسف محرم لقوله تعالى: (…وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُوا۟ بِبَعۡضِ مَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ…) النساء: ١٩، (…وَلَا تُضَاۤرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا۟ عَلَیۡهِنَّۚ…) الطلاق: ٦. فإذا ثبت عند القاضي تعسف الزوج صح منه الحكم بلزوم النفقة مع عمل المرأة وإلغاء تراجع الزوج عن إذنه لها بالعمل فيكون حكمه بذلك من باب معاملة الزوج بنقيض قصده.

إلى هنا ينتهي البحث فجزى الله الدكتور الشويعر خيرا وهذا الكشف لا يعني الاستغناء به عن الإثراء بالبحث كاملا، لمن أراد قراءته (أثر عمل المرأة في النفقة الزوجية)، والله أعلم وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.

أطلق العنان لآرائك💜

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑